الحلقة الحادية عشر:الأهداف السامية تفجر طاقات الشعوب
السلام عليكم ورحمة الله. أحبتي هل تذكرون في الحلقة التاسعة عندما قلت لكم:
"قد لا يطالَب العاملون للإسلام بإعلان الجهاد لتحرير بلاد المسلمين المحتلة من اليوم الأول من استلامهم للحكم" وقلت لكم في حينه: "(قد) هذه لها قصة تأتي"... ما قصة "قد"؟
عندما استلم صلاح الدين الأيوبي حكم مصر كان وضعها أليما قد لا يختلف كثيرا عن وضعها الحالي. فقد كانت ترزح تحت احتلال الدولة العبيدية المسماة بالفاطمية 200 سنة، وهي دولة مارقة من الإسلام عملت على طمس عقيدة أهل السنة والجماعة في مصر وعلى نشر الفسق والفجور. وكانت بلاد المسلمين الأخرى تتعرض لحملات الصليبيين. وعندما استلم صلاح الدين الحكم بدأ الصليبيون يشنون الحملات على مصر. ماذا فعل صلاح الدين؟ هل هادن الصليبيين وقال أتدرج في تعليم الناس الدين فقد طمست معالمه أثناء حكم العبيديين؟ بل أعلن الجهاد ووضع لشعب مصر هدفا واضحا: تحرير القدس وباقي بلاد المسلمين المحتلة. كان نور الدين قد صنع منبرا ليوضع في الأقصى. فأصبح لدى أهل مصر هدف سام عال واضح هو وضع المنبر في الأقصى.
شعب مصر المنهك المجوَّع المروَّع الممزق نتيجة حكم دولة الزندقة العبيدية لمئتي عام، عندما وضع له هدف سام عظيم: (تحرير بلاد المسلمين) أصبح شعبا عظيما، تطلعاته عظيمة، اهتماماته عظيمة، معنوياته عظيمة...فتلاشت آثار الحكم العبيدي، وكان خلاص القدس على يد هذا الشعب...فجيش حطين كان معظمه من المصريين.
هذا درس عظيم لأي حكم إسلامي سيقوم يوما من الأيام: ضع للناس هدفا عظيما تتلاشى المشاكل الصغيرة.
الطرح السائد هذه الأيام أن أي حكم إسلامي يقوم عليه أن يصلح الوضع الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي ويتدرج في فطم الناس عن عاداتهم المحرمة قبل أن يخطو أية خطوة عسكرية.
بينما التاريخ يعلمنا أن ما يحصل عادة هو العكس! الهدف العظيم يشحن همم الناس ويفجر الطاقات ويستخرج مذخور القوى.
أبو بكر رضي الله عنه، عند وفاة النبي ورِدة القبائل...وضع لأهل مكة والمدينة والطائف، وكثيرٌ منهم حديث عهد بكفر لم يمر على إسلامه سوى سنتين، وضع لهم هدفا عظيما...بعْثَ أسامة لقتال الروم عملا بأمر رسول الله. قال له الصحابة: (يا أبا بكر رُد هؤلاء توجه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب حول المدينة؟!) فقال: (والذي لا إله إلا هو، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رددت جيشا وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حللت لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم). فوجه أسامة فجعل لا يمر بقبيل يريدون الارتداد إلا قالوا لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين فثبت على الإسلام كثير ممن فكر في الردة.
هدف عظيم: الطاعة المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
لم يكن هدفا واقعيا ولا منطقيا بحسابات البشر، لكنه فجر الطاقات وشحن العزائم.
تصور معي لو قام حكم الشريعة في مصر وأطلق الحكام شعار: (مصر أمل الأمة)، أو (خلاص الأمة على أيدينا)، أو (لن ننكسر لغير الله)، أو (سنعيدها خلافة على منهاج النبوة)...شعار أخروي عظيم عال على مستوى الأمة ... كم سيكون لذلك من أثر في نفوس أهل مصر أو أي بلد؟!
هل يُتوقع حينئذ أن يطالب أحد من شعب مصر حكامه بإعطاء الحرية للفنانين والمغنين؟! هل ستطالب المتبرجة بإعطائها الحق أن تلبس ما تشاء؟! هل ستثار قضية السياحة والشواطئ والدخل الذي تدره السياحة؟! هل ستثار قضية حرية التعبير في نقد الإسلام؟! بل بمجرد وضع هدف سام فإن الناس سينسون هذه الترهات والسخافات والرأي العام سيحتقر هذه الطروحات. نريد إنقاذ أمة الإسلام وأنت تقول غناء! تريدين أن تتبرجي في دولة تطمح لإقامة الخلافة من جديد؟!
أصحاب هذه الطروحات الهزيلة سيصبحون منبوذين لأنهم يتكلمون في الدون أمام شعب يطلب المعالي. بل إن الناس سيشكون في دوافعهم ويتهمونهم بالعمالة للقوى الخارجية ولأعداء الأمة، لأنهم بطروحاتهم هذه يوهنون الروح الجهادية في الأمة ويتلفون أخلاق شبابها، وهو ما يريده الأعداء. فلا خيار للعلمانيين والمنافقين ومتبعي الأهواء والشهوات...لا خيار لهم إلا أن يتبنوا الشعارات العالية، أو أن يلجموا أفواههم ويخفوا بضاعتهم الكاسدة المقيتة. فالمجتمعات عالية الطموح تنبذ مثل هذه الطروحات.
هل كان المنافقون يثيرون مثل هذه الطروحات في عهد النبي؟ طبعا لا، لأن المجتمع الجهادي المنشغل بالمعالي سينظر إليهم باشمئزاز واستهجان.
ثم هنا نقطة مهمة جدا...عندما يضع الحكم الإسلامي هدفا عظيما فإن الترهات والمحرمات التي كانت هدفا في ذاتها تصبح في نظر أصحابها عوائق تعيقهم عن هدفهم العظيم. فبدلا من أن تبدد الدولة جهدها في إقناع الناس بترك الاختلاط والتبرج والأغاني والدخان والموضات والتشبه بالكفار في اللباس وقصات الشعر، وتخاف ردة فعل الناس من فطمهم عن معتاداتهم دفعة واحدة، يصبح المسلمون ينظرون إلى هذه الترهات على أنها تعيقهم عن الهدف الأسمى الذي وُضع لهم. فيدوسونها ويمضون إلى هدفهم. كانت بحد ذاتها أهدافا عندما كان الشعب ضعيفا اهتماماته دونية وتطلعاته دونية. أما الآن فقد تحولت إلى عوائق عن الهدف السامي، فلا يجد أية صعوبة في التخلص منها بل يمقتها ويزدري نفسه إن زاولها.
والناس إن لم تشغلهم الدولة بالحق شغلوها بالباطل! الناس إن لم تشغلهم الدولة بالحق شغلوها بالباطل.
إخواني هذا الكلام ليس ضربا من الخيال، بل انظر كيف أن شعوبا كافرة وضعت لها أهداف كبيرة باطلة، ومع ذلك فجرت طاقاتها...القادة الشيوعيون وضعوا لشعب روسيا هدف القضاء على الطبقية فأصبحوا دولة عظمى مع أنه كان شعبا كافرا في معظمه والهدف في حقيقته باطل.
الشعوب الإسلامية نفسها عندما رفعت فيها شعارات كبيرة من قيادات ليست أهلا لها كانت ذات أثر كبير. انظر إلى أثر شعار (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) عندما رفع في مصر مع أنه اقترن بالتغرير والانتفاش بالباطل وبأهداف قومية دونية. فكيف لو رفعته بصدق دولة إسلامية صادقة؟!
عندما يوضع نصب العيون هدف عظيم ويقف أمامك الأعداء في الطريق وتسقط الأقنعة ويظهر وجههم الكالح ويبدأ الشعب بتقديم التضحيات...حينئذ تشتعل روح التحدي والإصرار ويصبح ممنوع الأعداء مرغوبا. تأمل البلاد التي قامت فيها أنظمة إسلامية أو ترفع شعار الإسلامية بغض النظر عن صحة مناهج هذه الأنظمة...تأمل غزة وأفغانستان والصومال، على التباين بين هذه النماذج فقد قامت فيها جميعا نماذج هي في عرف الناس إسلامية. قامت الدنيا ولم تقعد، وضرب الحصار وكُثف القصف واستعلمت صنوف الأسلحة واستُعين بالطابور الخامس، ومع ذلك كله ما زاد ذلك شعوب هذه البلاد إلا إصرار على التمسك بمن رفع شعارا إسلاميا. وضع أمام هذه الشعوب الخيار: أسقطي هذه الأنظمة لتنالي الحياة والدعم والسلام، وإلا فالجوع والحرمان والذعر...فاشتعلت روح التحدي والتفت هذه الشعوب حول قياداتها التي نظرت إليها على أنها إسلامية، مع التباين بين هذه النماذج. المهم ان الشعب أحس أنه يتحدى في دينه ويساوم عليه ويُبتز. هذا مع ان هذه البلدان المذكورة ممزقة بالمجاعات والفقر والحروب الأهلية. لكن التحدي فجر طاقاتها.
المختصون بإدارة الذات يقولون ضع لنفسك رؤية ملهمة حالمة غير واقعية حتى تشحذ همتك. ولا يتأهل لقيادة الأمة إلا من لديه رؤية كذلك! حالمة في نظر القاصرين غير واقعية بمقياس البشر، لكنه يوقن أن الإيمان يصنع الأعاجيب، فكيف في هذا الزمان الذي سقط فيه الخوف وارتفعت فيه الهمم وقامت الحجة على المتخاذلين؟!
إذا لم يكن أصحاب المشروع الإسلامي واثقين من قدرة دينهم على تفجير طاقات الشعوب وتحقيق العجائب فهم ليسو أهلا بعدُ لقيادة هذه الشعوب ولن تسمح سنة الله لهم بقيادتها. لا بد أن يكون الإسلام عظيما في نفوسهم ليكون عظيما في نفوس الشعوب التي يقودونها، وإلا فإن فاقد الشيء لا يعطيه.
كانت هذه دروسا من الرجل الأول في قصة الرجال الثلاثة. الرجل الأول كان صاحب طموح عظيم، يريد أن ينقذ زوجته وأولاده من النار وأن يقاتل أعداءه، فأعلن ذلك وسعى فيه بوسعه وطاقته. ماذا عن الرجل الثاني؟ هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة بإذن الله.
خلاصة الحلقة: لأي حكم إسلامي يقوم...وضع هدف عظيم سيكون خير وسيلة لاستخراج طاقات الشعوب وتربيتها والتخلص من مشاكلها وفطمها عن عاداتها السلبية وتوحيدها على هذا الهدف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق